القائمة الرئيسية

الصفحات

ما الموقف الشرعي من المطالبة بالإيجار في زمن كورونا؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله:

ما الموقف الشرعي من المطالبة بالإيجار في زمن كورونا؟

أقول وبالله أستعين:

إنَّ جائحة كورونا تعتبر من الجوائح العامة، وليس للإنسان يد فيها ابتداءً، ذلك أنَّها عطلت الحياة بشكل عام، وكما قرره أهل الطب الثقات أنَّها واقعة فعلًا. وقد اتفق العلماء والأطباء على أنَّها جائحة لا يُستطاع دفعها؛ إلا بوسائل ومنها الحجر الصحي، وهو الامتناع عن المخالطة والمكث في البيوت. ويُبنى على الحجر الصحي بعض الآثار؛ ومنها ما فيها ضرر على المؤجر والمستأجر، والمسألة الواردة هل يحق للمستأجر أن يدفع ايجاره في هذه الظروف؟

وقبل البدء ينبغي معرفة بعض أحكام الإجارة:

فالإجارة: عقد معاوضة على تمليك منفعة معلومة يستوفيها المستأجر لأمد معلوم. وهي عقد جائز؛ لقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)). فالعقد ملزم للمؤجر والمستأجر، إذا تم الإيجاب والقبول بينهما، وتفرقا عن مجلس العقد، فلا يحق لأحدهما إلغاؤه إلا برضى الطرفين.

فيلزم المستأجر إذا ملك العين المستأجرة، أو المنفعة أداء الأجرة المتفق عليها من حين امتلاكه للمنفعة. وكذلك إذا استأجر عينًا بعقد صحيح، واستلمها، ولم ينتفع بها اختيارًا منه، وجبت عليه الأجرة.

لكن في حالتنا وهي الطوارئ العامة، والجوائح التي ليس للإنسان فيها يد فعندنا مسألتان:

الأولى: إن كان الحجر جزئيًا، أو كان بين وقت وآخر، أو يمنع أيامًا، ويفتح أخر، فإنَّه يلزم المستأجر أداء الأيام المفتوحة؛ وذلك أنَّ استيفاء الأجرة لزمته في المدة المحددة بينهما، وعدم استغلاله المنفعة أو البيت أو الدكان من غير عذر، توجب عليه دفع ما بذمته.

قال أبو القاسم الخرقي الحنبلي: فإن جاء أمر غالب، يحجز المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد، لزمه من الأجر بمقدار مدة انتفاعه. ((المغني 6/25)).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا استأجر ما تكون منفعة إيجاره للناس مثل الحمام والفندق والقيسارية ونحو ذلك، فنقصت المنفعة المعروفة مثل أن ينتقل جيران المكان، ويقل الزبون لخوف، أو خراب، أو تحويل ذي سلطان لهم ونحو ذلك، فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة المعروفة. ((مجموع الفتاوى 30/311)).

فأقوال العلماء تنص على أن يحط المؤجر عن المستأجر بقدر ما حجزه الخوف أو الحظر العام عن الانتفاع بالعين المستأجرة، ويدخل فيه مَن لم يستطع أن يتحصل على مال من عمله اليومي جراء هذه الإجراءات العامة.

وذلك لما جاء في الحديث الصحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. أي: أمر بوضعها، وإسقاطها، وعدم المطالبة بها. والحديث يدل على أنَّ الآفات إذا وقعت فأهلكت الثمار لا يحلّ للبائع أن يُطالب بثمنها. ويقاس عليها ما إذا عطلت الجوائح العامة منافع الناس، وأشغالهم، فليس للمؤجر المطالبة بحقه عوضًا عن منفعته المستأجرة.

المسألة الثانية: في حالة الطوارئ، والكوارث، والحروب، والجوائح، فللفقهاء حكم آخر: أنه لا يجب على المستأجر دفع أجرة المدة التي أُغلقت فيها المنافع، والعين المستأجرة لعموم البلاء، وتعطل حياة الناس التي فيها معاشهم.

قال الحافظ ابن عبد البر: وممن قال بوضع الجوائح هكذا مجملاً أكثر أهل المدينة منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، وأصحابه، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبوضع الجوائح كان يقضي رضي الله عنه، وبه قال أحمد بن حنبل، وسائر أصحاب الحديث، وأهل الظاهر. ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 2/195-196)).

وقال ابن قدامة: يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد، فيمتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع، ونحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ؛ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر استيفاء المنفعة. ((المغني 5/339)).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الجوائح في الإجارة فنقول لا نزاع بين الأئمة أنّ منافع الإجارة إذا تعطلت قبل التمكن من استيفائها سقطت الأجرة. (مجموع الفتاوى 30/288)).

فهذه الأقوال تدل على أن الجوائح العامة، والطوارئ، تحط عن المستأجر أجرة ما بذمته كاملة إن كانت تعطلت المنفعة المستأجرة تمامًا، وليس للمؤجر المطالبة بأجرة بيته أو دكانه لعدم الانتفاع منها اجبارًا وليس اختيارًا. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق". (صحيح مسلم (1554)).

فإذا كانت الجائحة في الثمر توضع، فكيف بجائحة النفوس التي هي أعظم عند الله قدرًا، وقد ثبت باليقين هلاك كثير من الأنفس بهذا الفايروس. فبأي حق يأخذ المؤجر مال المستأجر التي تعطلت منفعته، وخاف على نفسه هلاكها فجلس في بيته، ولو أخرج المؤجرُ المستأجرَ عن أملاكه فلا شك أنها ستعطل أيضًا لأن البلوى عامة، وليس للمستأجر يد في تعطيلها، أو عدم استغلالها، ويدخل فيه أيضًا مؤجر البيت لأنَّه معطل عن العمل، خاصة ممن يعمل بالأجر اليومي، ويفهم هذا من الحديث السابق: أمر بوضع الجوائح.

وأخيرًا.. في مثل هذا الظروف العصبية، والطوارئ العامة، على المسلم أن يتقرب إلى ربه عز وجل بإنظار المعسر، وعدم مطالبته بما يرهقه، والله عز وجل يقول: ((وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) ففي هذه الأيام ينبغي التعاون على الخير، والتكاتف بالمعروف، والاستكانة إلى الله تعالى والاكثار من الصدقات، لعل الله تعالى يرحمنا، فيكشف ما حلَّ بنا.

والحمد لله أولًا وآخرًا.

 

وكتب

د. ناجي إبراهيم الدوسري

22/شوال/1441

 

 

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
ناجي الدوسري

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق