iqraaPostsStyle6/سؤال وجواب/3

إخلاص العبادة لله وتأثير وسائل التواصل عليها

الكاتب: ناجي الدوسريتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

إخلاص العبادة لله وتأثير وسائل التواصل عليها

يُعدّ الإخلاص لله تعالى في العبادة أصلًا من أصول الدين، ومقومًا أساسيًا لقبول العمل، كما قال الله تعالى: "وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء" [البينة: 5]. ومع تطور الوسائل التقنية الحديثة، لا سيما انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، أضحى الحفاظ على هذا الأصل أمرًا أكثر تعقيدًا مما كان عليه في السابق. فالفضاء الرقمي، بما يوفره من منصات للظهور والتفاعل، يشكل تحديًا جديدًا أمام صدق النية وخلوص القصد.

والإخلاص في العبادة هو تصفية القصد من كل ما يشوبه من رياء أو طلب مدح أو سمعة، فلا يُراد بالعمل إلا وجه الله وحده، وقد اتفق العلماء على أنه شرط لقبول الأعمال، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل".

وقد نصّ الأئمة على أن أعمال القلوب، وعلى رأسها الإخلاص، أعظم شأنًا من أعمال الجوارح، فهي التي تمنح العمل روحه وقيمته. ولهذا، شدّد السلف على ضرورة محاسبة النفس ومراقبة النية في كل عبادة، ظاهرة كانت أو خفية.

ومع بروز وسائل التواصل، أصبحت كثير من العبادات أو الطاعات تُنشر وتُعرض أمام جمهور واسع؛ كصلاة التراويح، أو الصدقات، أو المشاركات الدعوية، أو الحج والعمرة، وغيرها من العبادات، ورغم ما في ذلك من فوائد إعلامية وتوعوية، إلا أن خطر تسرب الرياء أو الرغبة في نيل إعجاب الآخرين بات قائمًا، أحيانًا دون شعور من صاحبه.

من جهة أخرى، فإن تكرار مشاركة الأعمال التعبدية أو الخيرية عبر المنصات الرقمية، وإن كان بقصد التشجيع أو النشر، قد يتحول في بعض الأحيان إلى وسيلة خفية لتعظيم الذات، أو السعي للقبول الاجتماعي، وهو ما ينافي جوهر الإخلاص، ولو في جزء من النية. وقد أشار ابن رجب الحنبلي إلى هذه الدقائق بقوله: "الرياء يتسلل إلى العبد خفيًا، كجمرٍ تحت الرماد".

وقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي (مثل فيسبوك، تويتر، إنستغرام، تيك توك) نقلة نوعية في أسلوب التعبير والمشاركة، وأصبحت منبرًا يعرض فيه الأفراد تفاصيل حياتهم وأعمالهم، بما في ذلك العبادات والنشاطات الدينية، ومن أبرز التأثيرات على الإخلاص ما يلي:

· الرياء الإلكتروني: من أخطر ما يمكن أن يصيب نية العابد هو الرياء، وقد يتجسد ذلك من خلال نشر صور أو مقاطع تُظهر قيام الشخص بالصلاة أو تلاوة القرآن أو التصدق، بقصد نيل إعجاب المتابعين لا رضا الله تعالى.

· تشتت النية: كثير من الأفراد يقعون في شَرَك نيات متعددة عند القيام بعمل شرعي، فيختلط قصد التقرب إلى الله مع قصد كسب عدد أكبر من الإعجابات أو المشاركات.

· تحويل العبادة إلى محتوى مرئي: التكرار المستمر لنشر العبادات كنوع من "المحتوى" قد يُفقدها خصوصيتها ويُفرغها من معناها الروحي، ويحوّلها من عبادة قلبية إلى أداء شكلي موجّه للجمهور.

ليست المشكلة في الوسيلة ذاتها، بل في كيفية استخدامها، وهو ما يتطلب وعيًا شرعيًا ورقابة ذاتية مستمرة. فالنشر، إذا كان خالصًا لوجه الله ويرجى به تعليم الناس أو تحفيزهم، فلا حرج فيه، بل قد يُثاب عليه. أما إن اختلط بدوافع نفسية خفية، فهنا تكمن الإشكالية.

ولتجاوز هذا التحدي، ينبغي على المسلم استحضار مراقبة الله، وتكرار محاسبة النفس عند كل منشور، وسؤال النفس: هل كان هذا العمل سيُفعل لو لم يُنشر؟ وهل الباعث عليه رضا الله أم إعجاب الناس؟

ورغم خطر هذه الوسائل على القلب وإخلاصه، فإنها ليست شرًّا محضًا، بل يمكن توظيفها لنشر الخير والدعوة بشرط ضبط النية، ومن أهم الضوابط:

·استحضار نية الدعوة لا الشهرة: إن كان القصد من نشر العبادة أو النصيحة هو التأثير في الناس ودعوتهم، مع سلامة القلب من طلب الرياء، فذلك من العمل الصالح.

·الخصوصية في بعض العبادات: الأفضل في بعض العبادات كقيام الليل والصدقة أن تكون خفية بين العبد وربه، لما ورد في الحديث: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه...". رواه البخاري.

·مراقبة النفس: يجب أن يكون المسلم على وعي مستمر بتقلبات نيته، وأن يجددها باستمرار عند كل عمل.

في الختام إن إخلاص العبادة لله عز وجل يظل أحد أعمدة الدين، ولا يتغير بمرور الزمن أو تبدل الوسائل. غير أن المستجدات التقنية، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي، تفرض تحديات جديدة أمام صفاء النية وصدق القصد. ومن هنا، فإن الفقه في هذه النوازل، ومجاهدة النفس في ضبط النية، أصبحا من لوازم العبادة الصحيحة في هذا العصر. والله المستعان.

 

وكتب
ناجي إبراهيم الدوسري

الاثنين 28/ذو القعدة/1446هــ

26 / 5 / 2025


التصنيفات

شارك المقال لتنفع به غيرك

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

5225140061176126764

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث