بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، خالق كل شيء ومليكه، المدبّر لأمر الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على المبعوث بالهدى ودين الحق، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ من أصول الإيمان، ودعائم التوحيد، وأول ما يجب على العبد معرفته والإقرار به: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله عز وجل بأفعاله، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال الغيث، وتدبير أمر الخلائق، وهذا التوحيد هو الأصل الذي أقرّ به المشركون، ولم يُدخلهم في الإسلام، كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .
ومع أنَّ هذا التوحيد لم يكن مناط الدعوة في عهد النبي ﷺ، إذ كان القوم مقرّين به، فإن له آثاراً عظيمة على النفس والسلوك، إذا استقر في القلب، وآمن به العبد إيماناً حقيقياً صادقاً، ولم يكن مجرد معرفة لا تثمر عملاً ولا تقوى.
وفي هذا الموضوع أتناول – بعون الله وتوفيقه – بيان آثار توحيد الربوبية على النفس والسلوك، ومن هذه الآثار:
- حقيقة توحيد الربوبية:
توحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتدبير، ونحوها. قال ابن تيمية رحمه الله: وأما توحيد الربوبية: فهو الإقرار بأن الله ربّ كل شيء، وهو خالقه، ورازقه، ومليكه، ومدبره.
وهذا التوحيد هو الذي يدل عليه قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}.
- أثر توحيد الربوبية في ترسيخ الإيمان بالله وتوحيده بالألوهية فمن أيقن بأن الله وحده هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبّر، لم يكن له بدّ من أن يفرده بالعبادة، ويتوجه إليه وحده في كل أمر، ولهذا كان توحيد الربوبية دليلاً عقلياً وفطرياً على توحيد الألوهية. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}. قال الإمام الطبري رحمه الله: فأمر جل ثناؤه الفريقين... بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم.
ثالثاً: أثر توحيد الربوبية في طمأنينة القلب وسكينة النفس: إن العبد إذا آمن بأن الله هو المدبّر لكل أمر، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بإذنه، ولا يتحرك ساكن، ولا يسكن متحرّك إلا بأمره، فإن ذلك يولد في قلبه سكينة عظيمة، وطمأنينة عميقة، ورضاً بالقضاء، وصبراً عند البلاء.
قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}.
قال ابن القيم رحمه الله:
من علم أن الله هو المدبر لأمره كله، وأنه لا يحصل في ملكه إلا ما يشاء، طاب قلبه، وانشرح صدره، وسلم لله، ولم ينازع القدر، ووجد في قلبه برد التسليم ولذة التوكل.
- أثر توحيد الربوبية في التوكل على الله وحده: من علم أن الله هو الرزاق، لا رازق سواه، وأنه لا يضر ولا ينفع إلا هو، استراح قلبه من التعلّق بالناس، وعلّق رجاءه بخالقه، وتوكل عليه حق التوكل. قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
قال سهل بن عبد الله التستري: علامة التوكل: قطع الاسترسال في الأسباب بعد القيام بها، والركون إلى المسبب جلّ وعلا.
- أثر توحيد الربوبية في تحرير النفس من الخوف من الخلق: من علم أن الأمر كله لله، وأن الخلق لا يملكون لأنفسهم – فضلًا عن غيرهم – ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، أعتق قلبه من الخوف من الخلق، ولم يخش إلا الله، ولم يطلب العز إلا عند الله، واطمأن إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
- أثر توحيد الربوبية في العدل والإحسان: من أدرك أن الله مطّلع عليه، مدبّر لشؤونه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، استحيا من الله، وأقبل على العمل الصالح، واتقى ربه في السر والعلن، فأثمر توحيد الربوبية سلوكاً نزيهاً، وعدلاً مع الناس، وإحساناً في الأقوال والأعمال. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} وقال ﷺ: "اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
- أثر توحيد الربوبية في التسليم لله والانقياد لأمره: من صدّق أن الله هو الرب، وأنه المالك المتصرف في كل شيء، انقاد لأمره، وسلّم لحكمه، ولم يعترض على شرعه كما قال المؤمنون: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وقد أثنى الله على إبراهيم عليه السلام بقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
فالحاصل: أن توحيد الربوبية ليس مجرد تصور ذهني، أو تقرير معرفي، بل هو أساس من أسس الإيمان، وأصل من أصول التوحيد، يثمر ثمرات عظيمة في النفس والسلوك، من طمأنينة القلب، وصدق التوكل، وقوة التعلق بالله، والخلاص من الخوف من الخلق، والانقياد للشرع، والعمل الصالح، والتعامل الحسن، وكل ذلك مشروط بأن يكون هذا التوحيد مؤسساً على علم صحيح، وفهم سليم، واعتقاد جازم، واعتراف عملي بأن لا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا الله، ومقروناً بتوحيد الألوهية لا ينفك عنه.
نسأل الله أن يرزقنا توحيده حقاً، ويحيينا عليه، ويميتنا عليه، ويبعثنا في زمرة الموحدين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتب
ناجي إبراهيم الدوسري
الخميس 17/ذو القعدة/1446هـ
2025/5/15
إرسال تعليق