الاستواء على العرش وعلو الرب تعالى
ذكر الله تعالى استواءه على عرشه في كتابه الكريم
فقال: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، وقال: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))،
وغيرها من الآيات التي ذكرت استواءه على عرشه صراحة، استواءً يليق بجلاله وكماله.
وأشار سبحانه وتعالى أنّ ملائكته فوق في سماواته، وأنّه فوقهم فقال: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)).
وذكر سبحانه وتعالى علوه فقال: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى))، وقال: ((وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى))، وقال تعالى: ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)). فهذه الآيات كافية في اثبات علو الرب تعالى علواً يليق بجلاله وكماله، وينفي أن يكون بذاته مع خلقه.
وأما قوله تعالى: ((مَنْ فِي السَّمَاءِ)) فالمراد فوق على السماء كما في قوله تعالى: ((فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ)) أي فوق الأرض. وقوله تعالى: ((وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)) أي على جذوع النخل. كما قال بذلك جمهور المحققين من المفسرين.
ويُردّ على مَن قال: أنّ معية الله لخلقه معية ذاتية جملة من الآيات التي تثبت أنّ الله تعالى مستو على عرشه، بعلمه مع خلقه لا بذاته قوله تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ))، وقوله تعالى: ((تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ))، وقوله: ((يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)). وغيرها من الآيات الدالة على علو الله تعالى، وأنه بعلمه لا بذاته مع خلقه.
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عُرج به إلى السماوات العلى وقال:" ثُمَّ عُرِجَ بِي، حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ". وفي قصة عروجه إلى السماوات العلى، ووصوله إلى سدرة المنتهى، ودنوه من ربه تعالى، أكبر دليل على علو الرب تعالى، وأنه بذاته مستوٍ على عرشه.
وفي حديث الجارية ردٌ على مَن زعم أنّ معية الله لخلقه معية ذاتية فقد سألها النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الله" فقالت: في السماء. فقال: "مَن أنا؟". قالت: أنت رسول الله. فقال: "اعتقها فإنها مؤمنة". فحكم بإيمانها لما أقرّت أنّ الله في السماء.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء". وقوله: "ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء". فقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن في السماء". أي فوق السماء. كما فسرها البيهقي وغيره.
وفي رفع اليدين إلى جهة السماء دون غيرها من الجهات أبلغ ردّ على صحة الفطرة عند الداعي على علو الله تعالى على خلقه واستواءه على عرشه. فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخر خطبته قال: "وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟" قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ "اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ".
كذلك مما يثبت علو الله على خلقه واستواءه على عرشه بذاته قوله صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي". وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ". فقوله: "وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ" دليل على علو الله المطلق.
ومما يدل كذلك فهم سلف الأمة أنّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهْلُكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. وكان ابن عباس يقول لعائشة رضي الله عنهما: كُنْتِ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا وَهُوَ يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. وكان عبد الله بن رواحة ينشد:
وأنّ العرش فوق الماء حق وفوق العرش ربّ العالمينا
وقد أجمع العلماء المهتدين، وأهل المذاهب المعتبرين من أصحاب العلم والأثر، وأهل السنة والجماعة المتمسكين، وبقايا السلف المعروفين على أن الله تعالى مستوٍ على عرشه بائن من خلقه. قال ابن عبد البر: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)) هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وقال البيهقي بسند عن الأوزاعي: كنّا والتابعون متوافرون نقول: إنّ الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا.
وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيين: أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً، فكان من مذهبهم أنّ الله تبارك وتعالى على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومن العلماء المعتبرين وأئمة الهدى المعروفين الذين قالوا أنّ الله تعالى على عرشه استوى فوق سماواته، وهو معهم بعلمه أينما كانوا: كعب الأحبار، ومسروق الأجدع، وقتادة بن دعامة، والضحاك بن مزاحم، ومالك بن دينار، والأوزاعي، وأبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ونعيم بن حماد، وأحمد بن نصر الخزاعي، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، والمزني، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، وحرب الكرماني، وعثمان بن سعيد الدارمي، والترمذي، وابن أبي شيبة، وابن جرير الطبري، وابن خزيمة، والطحاوي، والبربهاري، والطبراني، وأبو الحسن الأشعري، والآجرّي، وابن بطة العكبري، وابن أبي يزيد القيرواني، والباقلاني، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن أبي زمنين، وابن الحداد، واللالكائي، ويحيى بن عمار السجستاني، وأبو عمر الطلمنكي، وأبو عثمان الصابوني، وابن عبد البر، والبيهقي، وأبو إسماعيل الأنصاري، والبغوي، وعبد القادر الجيلاني، وابن قدامة المقدسي، والقرطبي، وابن تيمية، والذهبي، وابن القيم، وابن كثير. وغيرهم كثير وإنما ذكرت واستفضت بأشهرهم من العلماء المعتبرين ونقلة الدين المعتمدين.
فهذا الذي قرروه هو الحق الذي لا مرية فيه وهو المنصوص عليه في كتاب الله العزيز، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما فهمه وتناقله سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم المرضيين، أنّ الله تعالى علا فوق سماواته بذاته واستوى على عرشه، قد أحاط علمه جميع مخلوقاته. لا ينكر ذلك إلا ضال، ولا يتأوله إلا منحرف.
وكتب ناجي الدوسري
24/رجب/1446
إرسال تعليق